• تصغير
  • تكبير

الكلمة الإفتتاحية لرئيس المجلس السيد عمر عزيمان

حضرة السيد مستشار صاحب الجلالة

حضرات السيدات والسادة الوزراء

حضرات السيدات والسادة

يسعدني أن أرحب بكم في هذه الدورة العادية متمنيا لها كامل النجاح والتوفيق.

ويطيب لي في افتتاح أشغالها أن أقف على ما شهدته بلادنا، منذ الاجتماع الأخير للمجلس، من حدثين بارزين من منظور حقوق الإنسان، يشكلان تقدما غير مسبوق، ويسجلان منعطفا مهما، ومحطة يؤرخ بها في تاريخنا المعاصر، ويتعلق الأمر:

أولا : بإحداث وتنصيب هيأة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 07 يناير 2004؛

ثانيا : صدور قانون الأسرة بتاريخ 03 فبراير 2004.

ففيما يخص الحدث الأول، لاشك أنكم تذكرون كيف شيدنا جميعا، خلال عدة أشهر، هذا الصرح الشامخ الذي هو «هيأة الإنصاف والمصالحة»؛ وكيف وضعنا الحجرة تلو الأخرى لنرسم شكله، ونبرز فلسفته، ونحدد اختصاصاته ومهامه.

وقد كللنا جهودنا برضى صاحب الجلالة ومصادقته، خلال شهر نونبر 2003، على التوصية التي رفعناها إلى جلالته، كما توجت بالاستقبال الملكي بأكادير يوم 07 يناير 2004، وبالخطاب التاريخي الذي ألقاه جلالته بالمناسبة.

ولقد انتابنا شعور عميق، ونحن نعيش هذه اللحظة القوية من حياتنا ومن تاريخ بلدنا. وستظل العبارات الجياشة التي وصف بها صاحب الجلالة العمل المنجز من لدن مجلسنا، موشومة في ذاكرتنا. كما أننا نحتفظ أيضا بذكرى راسخة لاتمحي للإلتزام الشخصي والقوي لصاحب الجلالة من أجل الحل العادل والمنصف والشامل والنهائي للقضايا المرتبطة بالانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان.

وقد تجسد هذا الالتزام من جديد بمصادقة جلالته مؤخرا على النظام الأساسي لهيأة الإنصاف والمصالحة ونشره في الجريدة الرسمية بموجب الظهير الشريف المؤرخ في 10 أبريل 2004.

وسيظل حاضرا في أذهاننا كذلك ما خلفه هذا الحدث من ارتياح وما حظي به من الإشادة والتنويه سواء في داخل بلدنا أو خارجه.

فابتداءا من تاريخ 07 يناير، شرعت هيأة الإنصاف والمصالحة في العمل من أجل الكشف عن حقيقة وقائع القضايا التي لازالت غامضة، ومن أجل التعويض العادل والمنصف عما لحق الضحايا من انتهاكات، ومن أجل إعادة إدماجهم اجتماعيا ورد الاعتبار لهم، وكل هذا بغاية تحقيق الهدف الأسمى، ألا وهو المصالحة.

إنها مصالحة مسؤولة ومنشودة، مصالحة إرادية ومستنيرة، مصالحة مبنية على القانون وعلى احترام حقوق الإنسان وعلى ميثاق جديد انخرط فيه الجميع بحرية. مصالحة تجلب الاطمئنان للفرد والسلم للمجتمع، مصالحة تحول الخصام إلى وئام، والشقاق إلى تعبئة جماعية، والألم إلى إقدام وحماس وحيوية. مصالحة ترجع ما ضاع، وتحرك وتحرر من أجل الدفع بالانتقال الديمقراطي وبناء مغرب جديد.

حضرات السيدات والسادة،

أما فيما يخص الحدث الثاني، فأنتم تذكرون أيضا، وبنفس القوة، أنه كان لنا شرف الترحيب، من هذا المقام، بالمبادئ الرئيسية الموجهة لإصلاح مدونة الأسرة، وكذا الإشادة والتنويه بصانع هذا الإصلاح صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.

فانتم تذكرون أننا صفقنا بكل حماس لما جاء به هذا الإصلاح من مبادئ العدل والتوازن داخل الأسرة، والمساواة بين الزوجين، والتوزيع العادل للحقوق والواجبات، والمسؤولية المشتركة، وكذا لإعادة الاعتبار للمرأة وللأطفال في حقوقهم.

وقد اكتسب هذا الحدث قيمته ومغزاه الآن بعد أن تجسدت هذه المبادئ في مقتضيات تشريعية، وبعد أن أصبح الإصلاح حقيقة واقعة بإرادة المشرع، وبعد أن أخذت المدونة الجديدة مكانتها ضمن منظومة القانون الوضعي، وأخذ القضاء يتهيأ من أجل ضمان التطبيق المناسب والملائم للروح الجديدة للمدونة.

وبفضل هذه الثورة الهادئة، اختار المغرب الخروج من الماضي والانخراط في مسار التطور، كما اختار أن يبدأ التغيير من النفس مصداقا لقوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». أي اختار أن يبدأ من الداخل عن طريق إصلاح المنظومة الإجتماعية، وإصلاح المؤسسات، ودمقرطة المجتمع، وتحديث العقليات، وإعادة قراءة التاريخ وإعادة النظر في التقاليد المتجاوزة.

ويشكل إصلاح مدونة الأسرة محطة متميزة في هذا المسار، وهو يدل على أن الفقه الإسلامي ليس منظومة جامدة وغير قابلة للتطور، بل هو صالح لمواكبة تطور المجتمعات، والاستجابة للحاجيات والتطلعات، كما أنه يملك الأدوات والمعايير الكفيلة بتطوره وتجدده.

كما يدل هذا الإصلاح أيضا على أن الشريعة الإسلامية تضع المبادئ العامة الموجهة والمبنية على قواعد العدل والإنصاف، والحرية والمساواة، والتضامن والتوازن، والأخلاق والمسؤولية؛ وهي كلها قواعد تضع كرامة الشخصية الإنسانية في مقدمة مجموع القيم.

وفضلا عما جاء به من مستجدات، فإن هذا الإصلاح يدشن لنظام عائلي جديد، يؤسس بدوره لنظام اجتماعي أكثر عدلا ومساواة وتحررا وانفتاحا، وأقرب تحقيقا لمقاصد الإسلام، وأكثر مطابقة للقيم الكونية.

حضرات السيدات والسادة،

لقد أوليت الاهتمام لهذين الحدثين بسبب ما لهما من أهمية وأبعاد، فهما حدثان استثنائيان ومتميزان، وسيشكلان معلمتين في التاريخ الذي سيدرس غدا.

كما أن التركيز عليهما نابع من كونهما يدلان بكل وضوح على التقدم البنيوي المتين الذي يجعل مسيرتنا على درب الديمقراطية تتعزز وتتقوى باستمرار، وإن كان هذا التقدم لا يستثني وجود بعض الخروقات والاختلالات والانزلاقات، التي تطفو أحيانا على السطح، والتي تقتضي مزيدا من اليقظة والحزم.

وأخيرا فإن إبرازي لهذين الحدثين جاء لأنهما يكشفان بوضوح على تصميم المغرب وعزمه على المضي قدما في الإصلاحات الضرورية لتحديث المجتمع، مع الحرص على أن لا نبني فوق الأرض الهشة وعلى أن نتحمل مشقة البناء المتين على صخر صلب خال من الرواسب التي راكمها الزمن.

حضرات السيدات والسادة،

مباشرة بعد تنصيب هيأة الإنصاف والمصالحة، التي تضم من بين أعضائها السبعة عشر، تسعة من أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، منهم أمينه العام، بصفته رئيسا لها، ورؤساء أربع مجموعات عمل، مباشرة بعد ذلك بادرنا إلى إعادة ترتيب الأنشطة المبرمجة، من أجل منح الأولوية لمهام الهيأة، وتمكين أعضاء المجلس فيها من إعطاء الأسبقية لمهمتهم الجديدة، وفي نفس الوقت تمكين المجلس من مواصلة القيام بمهامه واحترام التزاماته السابقة.

وقد تمكنا بفضل الله وعونه من تحقيق هذه المعادلة الصعبة ورفع هذا التحدي، وأنجزنا تقدما ملموسا في قيامنا بمهمتنا وممارسة صلاحياتنا الجديدة، ذلك أننا نجتمع اليوم حول جدول أعمال يعد الأكثر ثقلا والأكثر متانة من نوعه، إذ يتضمن:

مشروع رأي استشاري حول مدى حاجة التشريع الجنائي إلى تدعيم لمواجهة جرائم العنف والكراهية والتمييز؛

تقريرا حول حالة حقوق الإنسان بالمغرب خلال سنة 2003؛

تقريرا عن حصيلة وآفاق عمل المجلس؛

تقريرا خاصا عن الأوضاع في السجون.

ويستحق التقرير الأول منها حول حالة حقوق الإنسان أن نتوقف عنده لعدة اعتبارات:

أولها: إن إعداد هذا التقرير يتطلب منا الوفاء بإحدى المسؤوليات الدقيقة الملقاة على عاتقنا، ألا وهي رفع تقرير إلى صاحب الجلالة حول حالة حقوق الإنسان بكل تجرد وموضوعية. فعلينا إذن أن نبرز التقدم المحرز دون السقوط في المدح والتمجيد، كما علينا أن نبين، بكيفية مسؤولة، التجاوزات والخروقات. وأن نسهر، دون تردد، على المحافظة على استقلالنا في التقدير والتقييم، لأن هذا الاستقلال يعتبر جوهر وظيفتنا الاستشارية وفي نفس الوقت الشرط الأساسي لمصداقيتنا.

الاعتبار الثاني هو أن الجميع، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، ينتظر هذا التقرير الذي سننكب بعد حين، على مناقشته. لأنه هو الأول من نوعه الذي يعده المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. لذا، يجب أن يساهم هذا التقرير في تحديد موقع المجلس في المشهد المؤسساتي، وأن يعكس خصوصيتنا وتفردنا، وأن يعبر عن قوة عزيمتنا ونهجنا مقاربة نقدية بناءة ورصينة، كما يجب أن يجسد مدى كفاءتنا وحرفيتنا.

وأخيرا، فإن هذا التقرير يشكل بالنسبة لنا فرصة سانحة لتقييم حالة حقوق الإنسان، خلال السنة المنصرمة، وبالتالي المساهمة المباشرة، من خلال ما يتضمنه من تعاليق وملاحظات، في الحماية والنهوض بحقوق الإنسان بمفهومها الشامل.

والتقرير المعروض عليكم هو نتيجة عمل جماعي، ساهمت فيه كل من مجموعات العمل واللجن وجميع أعضاء المجلس إما بشكل مباشر أو غير مباشر. كما كان موضوع عملية موسعة من التشاور داخل لجنة التنسيق من أجل ضمان الوحدة والتناسق سواء في اختيار المواضيع أو في عملية التقدير. وتطلب تحريره مجهودا جبارا، ساهم فيه خبراء مثلما انخرط فيه بشكل كبير بعض الأعضاء.

وأود هنا أن أنوه بالمجهودات المبذولة من لدن الجميع، وأن أشيد بالتعبئة الكبيرة والمناخ الجيد الذي تم فيه إعداد هذا التقرير، وأن أشكر السلطات الحكومية على حسن تعاونها وتجاوبها مع المجلس في تقديم البيانات والمعطيات وتوفير المعلومات والإحصائيات وذلك بالرغم من أنه لم يتم الإتصال بها إلا في وقت متأخر.

ومن المؤكد أنه لا يمكن اعتبار هذا التقرير مكتملا ولن يكون بمنأى عن النقد لعدة أسباب:

أولا: لأن عملية إعداد التقرير السنوي تقتضي تتبعا للأوضاع خلال السنة بأكملها، وان يتم بناء على تجميع للمعطيات ومعالجتها، وهو ما لم يتم في وقته؛

ثانيا: لأنه يفترض تقييما منتظما وإعداد شبكة قراءة، وهو ما تم، ولكن بكيفية تدريجية خلال عملية الصياغة؛

ثالثا: لأنه هو أول تقرير من نوعه يعده المجلس، وبالتالي لا مفر من أن تتخلله بعض النواقص؛

رابعا: وأخيرا، لأنه ليس من السهل أن ندرك منذ الوهلة الأولى الأسلوب واللغة المناسبين للموقع الجديد للمجلس.

ومما لا شك فيه، أننا سنعمل جميعا، خلال هذه الدورة، على تحسين ما يمكن تحسينه، وأن نستخلص العبر من هذه التجربة من أجل القيام بما هو أفضل في السنة المقبلة بحول الله.

حضرات السيدات والسادة،

بالإضافة على هذا التقرير حول حالة حقوق الإنسان بالمغرب، نجتمع اليوم أيضا من أجل مناقشة تقرير عن حصيلة عمل المجلس خلال سنة 2003، وكذا تقرير عن الزيارات الميدانية التي قام بها بعض أعضاء المجلس لمجموعة من السجون.

ويعرض تقرير الحصيلة، بكيفية منطقية ومتوازنة، أنشطة الاجتماعات العامة للمجلس وكذا أنشطة مجموعات العمل واللجن. ويتضح من خلاله مدى أهمية العمل المؤسس والمجدد الذي قام به المجلس خلال هذه السنة، سواء فيما يتعلق بتحديد بنيته ومكوناته، أو فيما يتعلق بضبط إطاره المرجعي، وتحديد وتدقيق مناهجه ومقارباته، أو فيما يتعلق ببرامج العمل والأوراش والمنجزات.

أما التقرير الخاص حول السجون فيتضمن تقييما موضوعيا لإيجابيات وسلبيات الأوضاع في مجموعة من السجون التي تمت زيارتها، وذلك من خلال الوقوف في عين المكان على واقع الإصلاحات القانونية والتدابير العملية المتخذة من أجل تحسين ظروف الإعتقال وإصلاح المؤسسات السجنية والنهوض بحقوق المعتقلين والسجناء.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

رئيس المجلس

عمر عزيمان

أعلى الصفحة